العقل .. عندما تنعدم الجاذبية

Sky Writing

 

لاحظت مؤخرا أن لذة الكتابة لا تعتريني الا وأنا في الجو .. لعله البعد عن رتابة الأرض وقوانينها الوضعية ؟ .. لعله البعد عن تفكير الناس وتصنيفاتهم ؟ أو لربما للسماء وضع خاص يجد العقل فيه مبتغاه .. أي كان السبب فشكرا له ..

حسنا .. لم يكن ما جرى في هذا الصباح مخططاً له .. قرار السفر والوجهة لم أعلمها إلا بحلول مساء الأمس .. حقيبتي لم أجهزها -كعادتي- الا قبيل نصف ساعة من خروجي من البيت .. والأسوأ كان سوء الفهم الذي حدث بيني وبين السائق بما جعله يعتقد أن الرحلة في اليوم التالي وليس اليوم (ولست ألومه فكلانا بشر) .. شكرا للكنولوجيا الحديثة التي مكنتي من اصدار بطاقة صعود الطائرة وأنا بإنتظار سائق التاكسي بعد محادثتي لمكتبهم .. والنتيجة وصولي للمطار ٥ دقائق قبيل الاقلاع وصعودي للطائرة مباشرة بعد ان شاهدوا بطاقة صعود الطائرة من هاتفي الجوال (تساءلت حينها لو حصل لي هذا وانا في جدة ماذا ستكون النتيجة ؟ رد عقلي بوضع موسيقى حزينة وشخص في الخلفية يردد “نعتز بخدمتكم”) ..

انقطاع الانسان عن اتصالاته بجميع البشر تجعله يعيد التفكير في حساباته .. هل فعلا لا نستطيع العيش بلا انترنت بلا تويتر او فيس بوك؟ هل نستطيع ان نكمل يوما كاملا مع غير أن نطلع على البريد الإلكتروني ؟ .. لست أدفعك للإجابة على تلك الأسئلة فالاجابة بديهية جدا .. كنت أقارنها بأسئلة كنت أسئلها لنفسي قبيل ١٥ عاما من هذه اللحظة (الفرق أنني كنت أفكر وأن بالأرض) .. كانت أسئلتي التعجيزية تشبه ذلك السؤال الذي يقول هل يا ترى سأعيش من غير تلفاز ؟ هل ياترى سأقوى على فراق مجلة ماجد وشراءها كل أربعاء ؟ هل يا ترى سيأتي اليوم الذي يصبح السفر والترحال عنواني بالحياة ؟ .. وها أنا أرى ان الحياة أجابت بنفسها كما ستجيب هي عن الأسئلة التي تجول بخاطري وخاطرك الآن ..

العقل مثله مثل غيره من المخلوقات في هذه الحياة .. يتطور وتتغير طريقة تفكيره .. -أفضّل استخدام كلمة “يتطور” دائما بغض النظر عما تسببه هذه الكلمة من حساسية- .. فمن توقف عقله عن سؤال نفسه تلك الأسئلة التعجيزية البديهية سيجد نفسه متأخرا ينتظر ركوب قطار التطور .. مثله كمثل من حبس عقله في البيت ومنعه من الخروج واجراء اي نشاط بحجة الحفاظ عليه من منغصات وملوثات الحياة واكراما له (ان كنت قد اكتشفت الصدفه مثلي فهو يشبه وضع المرأة في أحد بقاع الأرض).

سأعود للأرض بعد قليل .. لا أعلم إن كان عقلي سيعود كذلك .. ولكني لا أظنه اختيارا يعود اليه في آخر الأمر 🙂 ..

أحمد

جمعية حقوق الأطواق

أكتب هذه الأسطر وأنا على ارتفاع 11500 مترا من على سطح الأرض بحسب الشاشة الصغيرة التي أمامي .. كم هي كئيبة تلك الشاشة .. وكم هي مؤلمة الوضعية التي اتخذها رأسي لأشاهد تلك الشاشة حيث اتخذت الفتاة التي أمامي اختيارا بأن “تسدح” كامل الكرسي على قدمي المسكينة .. غريب هو أمرها .. زوجها بجانبها ولكنها اختارتني .. أليس من الأولى أن يشعرني هذا ببعض السعادة ؟

ذكرني وجودي بهذا الارتفاع بأنني لطالما حلمت في مراحل مختلفة من حياتي بأن أكون في كوكب خاص بي .. كوكب لا تحكمه رغبات غيري ولا يجبرني مخلوق آخر بماذا يجب أن أفعله في يومي .. لم كوكب ؟ لعله كون بكامله أصول وأجول فيه مثلما أشاء وقتما أشاء .. لا عادات سخيفة ولا تقاليد مقيته تقيدنا بطوق مثلما يفعلون بالحيوانات الأليفة في كوكب الأرض الجميل (تحية لجمعيات حقوق الحيوان) .. لا .. حتى الحيوانات تملك خيارات أكثر من بعض ما لا نملكه .. فذلك المجبر على الزواج من ابنة عمه .. وتلك العاطلة في بيتها لأنه من العيب أن تعمل كممرضة .. وتلك التي حبسوها وراء القضبان لأنها أجرمت وطلبت الطلاق من زوجها مدمن الشراب .. عفوا أيها الحيوان فقد ظلمتك بتشبيهي السابق .. عش سعيدا بطوقك .. فنحن مقيدون بمليون طوق ..

تقول لي الخريطة بأننا نحلق فوق مدينة مومباي .. تلك المدينة العظيمة وشعبها العظيم .. شعبها الذي لولا دناءة تفكير البشر وعنصريتهم لأصبحوا من أعظم شعوب العالم مكانة وعلما .. لكن لا .. في كوكبي اختاروا بأن الجاه والمكانة تقاس باللون .. تقاس بالعرق .. أخبرني من أين انت عندها سأقول لك ما هي مكانتك في المجتمع .. أتعرفون ما الطريف في هذا الأمر ؟ أصبحت عرفا وأمرا مسلما .. أكاد أجزم بأنه عندما يلد الطفل منهم فإنهم يقدمون له كتيب صغير يحتوي على إرشادات تشغيل .. هذه مكانتك في هذا الكوكب .. احذر من أن تحاول أن ترتقي فوق هذا اللون .. إنهم سادة العالم .. أي سادة يا رجل !! استخدم عقلك فلا شي يقاس بهذه الطريقة .. انت كأصدقاءنا بالأعلى .. لم ترض وحسب بالطوق .. بل وضعته بنفسك وسلمته لهم ..

هل شعرت بالشفقة عليهم ؟ غريب جدا فقد كان كلامي مجازيا .. هل تعلم بأنه يوجد لدينا صورة كربونية في كويكبنا السعودي أو العربي الصغير .. نختلف عنهم في اللغة .. والدين (سلملي على الدين) .. ولكن إن قارنا العقل فلا فرق .. لدينا أطواقهم حيث اننا في الاستيراد الأفضل في هذا الكون .. واجتهدنا وأصبح لدينا أطواقنا الحاصة .. “بس كيف يا كابتن إحنا مسلمين وعندنا دين يحكمنا؟” .. لقد سمعتك .. وأبشرك .. طوق الدين من أشهر الأطواق التي لدينا .. لاحظ .. طوق الدين .. وليس طوق الإسلام .. وافهم يا فهيم

أعتذر لا استطيع اكمال الكتابة .. يبدو أن الفتاة صاحبة الكرسي المنسدح تريد أن تنام .. وأني أرى جهازي المحمول قد بدأ في التهشم تحت محاولاتها المتكررة في تحويل مقعد الطائرة المسكين إلى سرير (ولا عزاء لقدمي) .. ليتني استطيع التحدث معها لأشرح لها بعضا من حقوق المقاعد .. لكن ذلك الطوق الكبير المعلق في رقبتها يمنعها من السماع .. كما هو هو حال الطوق الذي يغطي فمي ..

أحمد